الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،،،
ففي هذه الحلقة نبين: أن العمل بمقتضى العلم مطلب أساس في الداعية:
إذا كانت تعاليم الإسلام تؤكد على أهمية العلم وضرورة العناية بتحصيله –كما سبق بيانه- فإنها تنظر إلى العلم على أنه وسيلة لا غاية، فهو وسيلة إلى تصحيح المعتقد، وتزكية النفس، وصحة الأعمال، وتهذيب الأخلاق، وتقويم السلوك.
قال بعض الحكماء: «العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلًا به أحب إليَّ من أدعه زهدًا فيه»(1).
يشير بهذه الجملة الأخيرة إلى أن الجاهل قد يعذر بجهله، أما العالم بالحق التارك له فإنه لا يعذر، بل تتضاعف عقوبته، إذ ليس من علم كمن جهل.
ومن ثم كان على العالم والداعية أن يعمل بموجب ما يعلم، فعلمه بالعبادات يقتضي أن يؤديها على وجهها، مستوفية شروطها وأركانها، خالصة لوجه الله تعالى.
والعلم بالمعاملات يقتضي أن يقوم بها في حدود الحلال، بعيدة عن الحرام مستكملة الشروط والأركان، والعلم بالأخلاق يقتضي أن يتحلى بفضائلها ويتخلى عن رذائلها.
والعلم بطريق الآخرة يقتضي أن يعد لها عدتها، ويسعى لها سعيها، ويحذر من قواطع الطريق التي تعمل على أن تثبط إرادته، وتعوق حركته.
وبهذا يكون العلم حجة له، لا حجة عليه، ويستطيع أن يجد للسؤال جوابًا إذا سئل يوم القيامة
عن علمه: ماذا عمل فيه؟)
عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه: فيم عمل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه: فيم أبلاه؟)(2)، ولا يكون كذلك العالم الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فضرب الله مثلًا بالكلب في أسوأ صورة له: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) [الأعراف: 175 – 176].
وإنما ينتصر أهل الدين، ويعز المسلمون، وترتقي الدنيا، بالعلماء العاملين الذين يؤيد عملهم علمهم، وتصدق أفعالهم أقوالهم، فهم يؤثرون في الناس بسلوكهم وحالهم أكثر مما يؤثرون بكلامهم، ولهذا قيل: حال رجل في ألف رجل، أبلغ من مقال ألف رجل في رجل!.
وإن من شر ما تبتلى به الحياة، ويبتلى به الناس: العالم الذي يناقض عمله علمه، ويكذب فعله قوله، فهو فتنة لعباد الله، وهو الذي حذر القرآن منه أهل الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) [الصف : 2-3].
إن النفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت بأنه يقول ولا يعمل، أو يعلم ثم لا يعمل، ولهذا قال شعيب عليه السلام: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) [هود: 88]… ومتى يكون المرء قدوة صالحة وأسوة حسنة ما لم يسابق إلى فعل ما يأمر به من خير، وترك ما ينهى عنه من سوء؟!.
وقد جاء في الصحيح عن أسامة بن زيد ك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقطابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه»(3).
إن من واجبات الداعية أن يتابع نفسه بما يصلحها ويزكيها، وألا يتساهل أو يلين في مراقبتها ومحاسبتها، لأن النفس أمّارة بالسوء، ومداخل الشيطان إليها أكثر من أن تحصي.
إن استشعار الداعية لمسؤولية إصلاحه لنفسه أمر عظيم، فكيف سيأمر الناس بأمر وهو بعيد عن تطبيقه؟! وكيف سينهاهم عن فعل أمر وهو واقع فيه؟! فإنه لا محالة سيقع في التناقض.
قال تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) [البقرة : 44].
وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى بذكر: تكملة لقاعدة (العمل بمقتضى العلم مطلب أساس في الداعية).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.