الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
ففي هذه الحلقة نذكر: تكملة لقاعدة (العمل بمقتضى العلم مطلب أساس في الداعية):
إن الناس ترقب أحوال الداعية، ويرتقبون بأعينهم سلوكه، ويكون انتفاعهم من علمه بقدر ما ينتفع به
لنفسه.
قال محمود بن الحسن بن الوراق:
إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد لعلمك مخلوقًا من الناس يقبله
وإن زانك العلم الذي قد حملته وجدت له من يجتبيه ويحمله(1)
ولا يقتصر ضرر المرء -حينئذ- على قلة الانتفاع بعلمه، بل إن الناس ترى في سلوكه مشجعًا على اقتراف الآثام، وارتكب الخطايا، باعتبار أن القدوة لهم قد حاد عن الطريق المستقيم، فهم -لهذا- أعجز عن الالتزام به.
يقول الإمام ابن القيم: «علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعون إلى
النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه
حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهو في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق» (2)
العبادة: العبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية :: «هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من
العبادة...، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه،
والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة»(3).
بهذا المفهوم الواسع للعبادة، فإن هناك رابطًا واضح بين العبادة والعمل، ولا يمكن الفصل بينهما، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلاقة في كتابه المبين في مواطن كثيرة، بل لا تخلو سورة إلا وفيها إشارات ومعان تربط بين العبادة والعمل:
- مطلب العلم عمل وعبادة، كما في قوله تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [العلق: 1].
- وقيام الليل عمل وعبادة، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) [المزمل : 1-4].
- والصلاة عبادة وعمل، لقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً )[الإسراء: 78].
- وقراءة القرآن عبادة وعمل: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) [المزمل: 4].
وهكذا سائر الفروض والنوافل وأعمال الخير والإحسان، كلها أعمال تعبدية لله تعالى.
وقد أمر الله تعالى عباده بهذا بهذه العبادة بهذا المفهوم الواسع والكبير، فقال
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) [الحجر : 99].
كما حدد جل وعلا رسالة الإنسان على الأرض في العبودية له جل وعلا، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات : 56].
ومن هنا فإنه من الخير للداعية أن تكون العبادة ديدنه في الحياة، وأن يجعل كل عمل يقوم به خالصًا لله تعالى وتعبدًا له وتقربًا إليه، وأن ينتظم بهذه العبادة بخشوع ورغب ورهب، كالحرص على الفروض في أوقاتها، وكذلك المحافظة على النوافل والتطوع، مثل السنن وقيام الليل وقراءة القرآن وجميع أنواع الذكر المختلفة.
وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: النتائج المترتبة على مخالفة القاعدة المذكورة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين