الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد...
ففي هذه الحلقة نبين: أن الجهة الغالبة أولى بالتقديم عند تزاحم المصالح مع المفاسد:
إن كل مصلحة مفسدة وكل مفسدة مصلحة، فلا توجد مصلحة خالصة ولا مفسدة خالصة في أي فعل من الأفعال، لذا كان الحكم للجهة الراجحة.
وعلى هذا الاعتبار تأسست الأحكام الشرعية لأنها تنظم حياة الناس في الدنيا، والدنيا لا يتمحض فيها الخير كما لا يتمحض فيها الشر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :: «جميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم، قد تحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها، كما أن كثيرًا من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحتها راجحة على مفسدتها أمر به الشارع فهذا أصل يجب اعتباره»(1)
وقال الشيخ السعدي :: «إن الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته ومضرته خالصة أو راجحة، ولا يشذ من هذا الأصل الكبير شيء من أحكامه»(2) إلا أن المفسدة التي قد تتخلل الأوامر الشرعية والمنفعة التي قد تتضمنها النواهي الشرعية غير مقصودة للشارع ، وإنما يقصد الجهة الراجحة من المصلحة أو المفسدة.
وجريا مع هذا الميزان الشرعي الذي يراعي الجانب الأقوى فإنه إذا تزاحمت المصالح مع المفاسد فإن الحكم للجهة الغالبة، إما للمصلحة وإما للمفسدة، فإن كانت المفسدة أكبر درأناها، وإن كانت المصلحة أكبر جلبناها.
وفيما يلي بعض النصوص الشرعية لهذا الضابط:
1- قال تعالى في شأن الخمر والميسر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ )[البقرة 219]؟
إن في الخمر والميسر منافع ومفاسد، إلا أن مفاسدهما أكبر، لذا كان تحريمها أولى، لأن المعول عليه في التحريم هو غلبة الضرر على النفع، وقد ذكروا أن منافع الخمر تتمثل في الربح التجاري وفي الالتذاذ بشربها، ومنافع الميسر تتمثل في أخذ أموال الغير بلا مقابل وبلا تعب، إلا أن هذه المنافع تقابلها أضرار كثيرة فيهما فرجحت كفة التحريم(3)
2- وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن نقض بيت الله الحرام وإعادة بنائه على أساس إبراهيم عليه السلام، لأن المصلحة في إعادة بنائه عارضها مفسدة أكبر متمثلة في امتناع قبول بعض المسلمين ذلك لحداثة عهدهم بالكفر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم - قال ابن الزبير بكفر- لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون»(4)
قال ابن القيم :: «لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت، ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه مع عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر»(5)
3- كما امتنع صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، فقد ابتلي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة بالمنافقين، ورغم أن كيدهم ومكرهم كان يفوق كيد ومكر الكفار فقد امتنع صلى الله عليه وسلم عن قتلهم لكي لا يقال إن محمدًا يقتل أصحابه، ولأن قتلهم ذريعة إلى النفور من الإسلام، فهذه المفاسد أكبر من مصلحة قتلهم.
وباستقراء مثل هذه الأحكام فهم الفقهاء أن مقصود الشارع عند تزاحم المصالح مع المفاسد، إنما يتحقق بمراعاة الجانب الأغلب.
قال ابن تيمية :: «القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها... فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته»(6)
وقال العز بن عبد السلام :: «تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود وحسن، ودرء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن»(7)
وقال الشاطبي: «فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضي ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفًا»(
ومن خلال هذه الأدلة وتلك الأقوال ترى ثبوت هذا الضابط، وهو ضابط مهم خصوصًا في عصرنا الذي يندر فيه أن تجد مصلحة دون أن تزاحمها مفسدة، نظرًا لغلبة الهوى وامتناع كثير من الناس عن الاستضاءة بنور الوحي، فيجد المسلم نفسه في مواقف كثيرة محرجًا، تتجاذبه جهتان متناقضتان: جهة الدين الذي يحرم عليه كذا وجهة الدنيا التي تقعسه عن هذا الواجب.
بل إن التزاحم بين المصالح والمفاسد قد يكون داخل الجهة الواحدة بأن تتزاحم مصلحة دينية مع مفسدة دينية أو مصلحة دنيوية مع مفسدة دنيوية، إلا أن تزاحم ما هو دنيوي مع ما هو أخروي هو الذي يقلق بعض الدعاة كثيرًا لخوفهم من ارتكاب المحظور الشرعي، لذا فإن امتلاك موازين الترجيح في المواقف التي يتزاحم فيها الصلاح بالفساد أمر مهم بالنسبة للمسلم وخاصة الدعاة، وإلا بقي دائمًا محتارًا لا يدري ماذا يقدم وماذا يؤخر؟!
وهذه الموازين هي نفسها موازين الترجيح بين المصالح المتفاوتة أو بين المفاسد المتفاوتة.
ومن الأمثلة التطبيقية لهذا الضابط:
1- أن إذا كانت كفة المصلحين مرجوحة فلا ينبغي الخروج على أئمة الجور، لأن البقاء تحت ظل حكم جائر يخل بمصالح حاجية، بينما الخروج عليه يفوت مصالح ضرورية، إذ سيؤدي إلى إهلاك نفوس، وإتلاف أموال، لذا يحسن بالفئات المصلحة في الأمة أن تهتم بالدعوة كما حصل لبعض الفرق الإسلامية التي خرجت على أئمة الجور فتسببت بخروجها في أضعاف أضعاف ما كانوا عليه من الجور، والأمة ترزح في بقايا تلك الشرور إلى الآن(9)
2- ومن الأمثلة التطبيقية أيضًا في وسائل الدعوة ما سبق من مثال: المشاركة في بعض وسائل الإعلام المتضمنة لكثير من المفاسد، فمما ينبغي دراسة الأمر في واقع المصالح المرجوة والمفاسد المترتبة عليها، وأي جهة غلبت يعمل به.
3- ومن الأمثلة أيضًا: بعض المشاريع المشتركة مع غير المسلمين مثل المشاريع الإغاثية فهذه أيضًا خاضعة لجرد المصالح والمفاسد الآنية والمستقبلية، وقد لا تأخذ حكمًا واحدًا لكن ينبغي التأكيد على توضيح المصالح والمفاسد بوضوح ليبنى الحكم بناءً سليمًا، ويتخذا الموقف السليم.
وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: الضابط الرابع: جهة المفسدة أولى بالدرء عند تساوي المصالح مع المفاسد .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.