الدورة العلمية في العقيدة الإسلامية
للدكتور / محمود عبد الرازق الرضواني
حفظه الله تعالى
مسجد الصحابة – عين شمس
المحاضرة السادسة
الإثنين 7 جماد الأول 1429
12 مايو 2008
موضوع المحاضرة:
علم التوحيد وأنواعه وتصنيفاته
عناصر المحاضرة:
• مقدمة.
• المقصود بعلم التوحيد لغة واصطلاحا.
• المصطلحات التي تدل على علم التوحيد .
• مفهوم الألوهية بين السلف ومخالفيهم .
• تصنيف التوحيد إلى نوعين والمصطلحات التي أطلقت على كل نوع .
البحث المطلوب:
تحديد شواهد أنواع التوحيد في جزء تبارك
• مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين ، أما بعد:
نواصل في المحاضرة السادسة الحديث عن علم التوحيد وأنواعه وتصنيفاته ، سنتحدث بإذن الله تعالى عن:
• المقصود بعلم التوحيد لغة واصطلاحا.
• المصطلحات التي تدل على علم التوحيد .
• مفهوم الألوهية بين السلف ومخالفيهم .
• تصنيف التوحيد إلى نوعين والمصطلحات التي أطلقت على كل نوع .
بداية من هذه المحاضرة – بإذن الله تعالى – سيكون الكلام أكثر صبغة علمية ، والمحاضرات الماضية كانت ضرورية لضبط المنطق والفطرة العقلية والفطرة الإيمانية ، ثم نبدأ بعد ذلك الحديث عن المنهج العلمي .
• المقصود بعلم التوحيد لغة واصطلاحاً.
التوحيد لغة: مصدر وَحَّدَ يوحد أي أفرد الشيء يفرده ، فالتوحيد في أصله معناه الإفراد ، إفراد شئ بشئ عن شئ ، فمثلاً: نُفرد إنساناً عن باقي الإنسانية بشئ يتميز به ، بوصف ينفرد به .
فالمتوحد هو المنفرد بوصفه ، الم
ن لغيره ، فهو متميز عن الآخرين ومنفرد عنهم .
والمقصود بتوحيد الصحابة رضي الله عنهم لربهم أنهم أفردوا الله عن غيره بما أثبته لنفسه من أنواع الكمال في العبودية والربوبية والأسماء والصفات، فهو وحده رب العالمين المستحق للعبادة ، فلا يوجد أحد يحق له أن يُعبد من دون الله ، فهذا الاستحقاق خاص برب العزة والجلال، قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) ، وربنا سبحانه وتعالى أيضاً هو المنفرد بأسمائه وأوصافه كما قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11) ، وهو أيضاً المنفرد بالخلق والملك والتدبير والتقدير كما قال سبحانه وتعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (الأعراف:54) ، (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه:50) ، (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) (الزمر:62) ، هذا وصف ربنا تبارك وتعالى ، ولن تجد هذا الوصف في سواه .
أما علم التوحيد اصطلاحاً: "هو علم يُعرف به طريقة الصحابة والتابعين في توحيد الله بالعبودية وإثبات العقائد الإيمانية بأدلتها النقلية والعقلية، والرد على المتبدعين في العبادات والمخالفين في الاعتقادات بالأدلة النقلية والعقلية".
شرح التعريف:
"علم يعرف به طريقة الصحابة والتابعين": فهؤلاء هم خير القرون ، وقد خصصنا الصحابة بالذكر على أساس أن تكون العقيدة صافية نقية كما كان عليها أصحاب محمد بن عبد الله .
"في توحيد الله بالعبودية": لأن هذا هو التوحيد الذي من أجله نزلت الكتب وأرسلت الرسل .
"وإثبات العقائد الإيمانية ": المقصود بالعقائد الإيمانية هو ما يعتقده الشخص في باب الغيبيات ، في كل ما جاءنا عن رب العزة والجلال من أخبار .
"بأدلتها النقلية والعقلية ": فالأدلة النقلية أولاً ، ثم الأدلة العقلية ، فنحن نقدم النقل على العقل ، ولا نلغي العقل في أن يُثبت هذه العقائد ، ولكن ليؤيد النقل لا ليعارضه ، فالشخص يستخدم عقله لخدمة كتاب الله ، لا ليعارض كتاب الله ويجعل كتاب الله على ما يراه هو بعقله فيقول: نأخذ هذا ونرد هذا ، كما رأينا في قصة الجهم بن صفوان والمعتزلة .
"والرد على المتبدعين في العبادات": أي المبتدعين في باب الأوامر ، فإذا قدَّم أحد عقله على كتاب الله في باب الأوامر التكليفية فسيبتدع في دين الله.
"والمخالفين في الاعتقادات بالأدلة النقلية والعقلية "
وقد اخترت هذا التعريف من مجموع تعريفات كثيرة جداً تحدث عنها المتكلمون وكثير ممن خاضوا في علم الكلام ، ولكننا أردنا التعريف المعبِّر فعلاً ويتطابق صدقاً مع واقع الحال الذي كان عليه أصحاب النبي .
• المصطلحات التي تدل على علم التوحيد .
نتحدث الآن عن المصطلحات التي أُطلقت على علم التوحيد عبر التاريخ الإسلامي ، بحيث أنك لو قرأت في كتاب أو سمعت هذا الاصطلاح تعلم أن المقصود هو علم التوحيد.
هل علم التوحيد كان معروفاً كعلمٍ في أيام الصحابة والتابعين؟ ، إنك تجد من يقول: هذه العلوم كعلم الحديث وعلم الفقه وأصول الفقه وعلم التفسير وعلم القراءات لم تكن معروفة على أيام النبي ، فلماذا نحتاج لها؟
نقول: جميع العلوم جاءت بعد عصر النبي ، لكن لها أصول دعا إليها رسول الله ، فلا بد لكل علم من العلوم أن نرى مستنده الشرعي ، فهل هناك مستند ورد في الوحي يدعونا إلى أن ننشئ علماً كاملاً ونقوم على خدمته تحت مسمى علم التوحيد أو علم الفقه أو علم الحديث ؟ فمن المهم أن نعرف أصل هذه العلوم ، وهل هناك مستندٌ شرعي يُجوِّز لنا أن نقوم في الدين بهذا العلم ونُنشئه؟ فتجد من يقول : "هذه العلوم التي تتحدثون فيها مستحدثة ، فمن الذي قال بأن التوحيد نوعان أو ثلاثة؟ لم يكن الصحابة يعرفون هذا".
ولذلك فإننا سنبحث في الشرع عن المستند الشرعي الذي يُخولنا في أن ننشئ علماً كاملاً نخدم به كتاب الله عز وجل ، فقد بحثت في كل العلوم فوجدت بأن لها أصلاً في الشرع كما سنرى ، فما هو مستند علم التوحيد ؟
النبي لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى".
فمعاذ سيذهب ليدعوهم إلى علم التوحيد ، فيجب أن يكون معاذ مؤهلاً وعلى قمة العلم الذي يستطيع أن يدعو به هؤلاء ، خصوصاً أنه سيذهب إلى قوم من أهل الكتاب ،إذاً ، هو خبير في علم التوحيد ، وإلا لما أرسله رسول الله ، والنص هنا على علم التوحيد بالاسم ، والمقصود هنا بالتوحيد توحيد العبادة ، ففي رواية قال : "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" ، وفي رواية أخرى: " فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله " ، فنفهم من مجموع الروايتين أن المقصود هنا توحيد العبادة ، ويتبين من ذلك أن مصطلح توحيد العبادة كان معروفاً على عهد النبي .
فمصطلح توحيد العبادة لم يُنشئه محمد بن عبد الوهاب أو ابن تيمية كما يقولون، وإنما هو نص نبوي، فمن قال بأن توحيد العبادة لم يكن معروفاً عند السلف الصالح فقد أخطأ ، فالإمام البخاري رحمه الله تعالى أفرد باباً في الصحيح في كتاب التوحيد قال فيه: (باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى) ، فلو قام أناس خدموا علم التوحيد وتوحيد العبادة وتحدثوا عنه بكل ما استطاعوا ، فالذي دعاهم إلى ذلك هو رسول الله .
وأما علم الحديث والجرح والتعديل والحفاظ على سنة النبي والتثبت من نقلها برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، هل له مستند شرعي؟
نقول: علم الحديث أنشأوه اسماً ورَسماً عملاً بقول النبي : " حدثوا عني ولا حرج" ، فلما يقوم العلماء بوضع علم لنقل الحديث عن رسول الله وضبطه فلهم مستند شرعي ، فالذي جوَّز لهم هذا هو رسول الله .
وأما علم الفقه فموجود مستنده في الدين ، فقد قال النبي : "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" ، فالفقه في الدين له مستند شرعي ، والله سبحانه وتعالى يقول: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (التوبة:122) فعلم الفقه وأصول الفقه علم شرعي وله مستند شرعي موجود في الشرع.
وأما بالنسبة لعلم اللغة فالله تعالى يقول: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) (يوسف:2) فيجب أن نتعلم اللغة العربية التي نفهم بها كلام الله عز وجل .
إذاً ، جميع العلوم الشرعية لها مستند شرعي إلا علم التصوف ، وقد صنفت كتاباً اسمه "التصوف، هل له أصل في الكتاب والسنة؟" فهل هناك نص عن النبي دعا فيه إلى التصوف ؟
هناك عدة أقوال في أصل كلمة التصوف:
1. قالوا بأنها نسبة إلى الصوف
والصوف لم يكن أحب الثياب إلى النبي ، وإنما كان أحب الثياب إلى النبي الحبرة ، وهي بردة مصنوعة من القطن أو الكتان.
2. قالوا بأنها نسبة إلى الصف الأول
مع أن الصوفية يقولون بأنه من آدابهم أنهم لا يحبون الصلاة في جماعة ولا الصلاة في الصف الأول ، وهذا هو نص كلامهم في كتاب اللمع للسراج الطوسي ، فلماذا لا يحبون الصلاة في الصف الأول؟
يقولون لأن الناس تزدحم للصلاة في الصف الأول طلباً للأجر والعوض ، وهم يعبدون الله لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره.
3. قالوا بأنها نسبة إلى الصفاء والنقاء
نقول: لو كانت كذلك لكانت النسبة : "صافيّ" وليس "صوفي".
4. قالوا بأنها نسبة إلى أهل الصفة
نقول: لو كانت كذلك لكانت النسبة : "صُفِّي" وليس "صوفي".
فالعلم الوحيد الذي ليس له مستند شرعي هو علم التصوف ، فلو قالوا: هو علم الأخلاق ، نقول: لماذا قلنا إذاً بأنه علم التصوف ولم نقل بأنه علم الأخلاق ، ولو قالوا: الصوفية هم أهل الإحسان ، نقول: الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، وأهل الإحسان الذين وصلوا للدرجات العليا لم يسمهم النبي صوفية.
ومن أراد المزيد حول هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب: "التصوف، هل له أصل في الكتاب والسنة؟"، ففيه بسط وشرح لهذا الموضوع .
ما هي أبرز المصطلحات التي أطلقت على علم التوحيد؟
1. علم التوحيد
وقد تتابع أهل العلم عبر القرون المختلفة على التأليف في هذا الفن تحت مصطلح التوحيد سواء كانوا من السلفيين أو ممن خالفهم من المتكلمين ، ومن أمثلة ذلك:
• الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت:311) ألف كتاباً على نهج السلف الصالح عنون له: (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب سبحانه وتعالى)
وسنة 311 هجرية كان متواجد فيها آثار مذهب المعتزلة ، فالمعتزلة كانوا مسيطرين على البلاد الإسلامية ، واستمر أثر المعتزلة ، وكان أول أصولهم هو "التوحيد" الذي خالفوا به منهج السلف الصالح ، فرد عليهم السلف الصالح ، ولذلك قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى: "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب سبحانه وتعالى" ، فليس التوحيد هو نفي صفات الرب ، فصنف ابن خزيمة هذا الكتاب للرد على المعتزلة.
• وكتب أبو منصور الماتريدي (ت:333) كتابا سماه: (التوحيد) وانتهج فيه طريقة المتكلمين الذين يقدمون العقل في إثبات الحجج والبراهين ، وهذا الكتاب لا يقرأ فيه طالب العلم إلا بعد أن يدرس أصول الاعتقاد.
وقد بقي اصطلاح (علم التوحيد) دائراً بين المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا الحاضر، وتجدر الإشارة إلى كتابين أُلفا تحت ذلك الاصطلاح في القرنين الماضيين، وهما:
• (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت:1206)
• رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده (ت:1323) ، وهو على المذهب الأشعري.
فبقي اصطلاح علم التوحيد من أيام النبي حتى الآن.
2. علم العقيدة:
العقيدة هي الأساس الذي يحرك أي إنسان وأي أمة ، فالذي يحرك الشعوب علم العقيدة ، فإما أن يتحرك الإنسان على عقيدة صحيحة ، وإما أن يتحرك على عقيدة الجهل والهوى.
فالعقيدة هي عقد القلب على تصديق خبر الرب وتنفيذ أمره، والإيمان به إيماناً لا يقبل الشك مع الثبات عليه .
والعقيدة في الأصل تكون متعلقة بباب تصديق الخبر ، والاستعداد لتنفيذ الأمر ، فلو قال لك أحد : "الطريق من هنا مغلق" فهذا خبر ، فلو صدقت هذا الخبر فقد حدث في القلب اعتقاد بصحة الخبر سيؤدي إلى أن تنوي بأنك إذا قمت سوف تذهب من طريق آخر ، وإن لم تصدق بهذا الخبر فلن يحدث اعتقاد ، وسيكون اعتقادك أن القائل ليس بصادق.
فالعقيدة عقد القلب على تصديق الخبر والاستعداد لتنفيذ الأمر ، فالمسلم عنده عقيدة ، يقول: يا رب أنت معبودي بحق، فأنا قد عقدت في قلبي عقداً على تصديق خبر الله عز وجل وعلى تنفيذ أمره ، فمن قال "لا إله إلا الله" يعني لا معبود بحق إلا الله على هذه النية قد عقد عَقداً على أن يُصدق خبر الله وأن يُنفذ أمره ، ولا يأتي أحد ويشككه في عقيدته فيستجيب له، فالعقيدة لا بد من الثبات عليها وعدم الشك فيها والبقاء عليها إلى يوم الممات ، وهو ما عبر عنه النبي في حديث سفيان بن عبد الله الثقفي بقوله: " قل آمنت بالله ثم استقم" ، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، فالإيمان يقتضي تصديق الخبر وتنفيذ الأمر ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) هذا هو تنفيذ الأمر ، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) والثبات على ذلك إلى يوم الممات ، وهذه هي العقيدة.
وهناك كتب كثيرة كُتبت باستخدام مصطلح علم العقيدة ، ومن أمثلة ذلك :
• الإمام أحمد بن حنبل (ت:241) له كتاب بعنوان
العقيدة)، كتبه ليرد على المعتزلة لما خربوا في العقيدة.
• كتاب: (العقيدة الطحاوية) للإمام أبي جعفر بن سلامة الأزدي الطحاوي (ت:321) ، والتي شرحها الإمام ابن أبي العز الحنفي .
• كتاب: (اعتقاد أئمة الحديث) لأبي بكر الإسماعيلي (ت:371) .
وهذه الفترة كان فيها ظهور المذهب الأشعري ، ونهاية عصر المعتزلة ، وضياع معاني التوحيد بسبب سيطرة المذهب العقلي على يد المعتزلة ، فجعل ذلك السلف يكتبون هذه المؤلفات ليبينوا اعتقاد الصحابة ويحافظوا عليه ، وهذا هو القصد الذي استمر فيه جميع العلماء ، ما كتبوا في التوحيد وما قسموا التوحيد هذه التقسيمات إلا ليحافظوا على اعتقاد الصحابة ، ونحن والله ما جئنا واجتمعنا في هذا المسجد إلا لذلك ، وهي رسالة نحملها ويحملها من جاء بعدنا إلى من سيأتي ، لأن هذه هي خلاصة الحياة أو الغاية من الحياة ، توحيد رب العزة والجلال ، فنسأل الله أن نحيا على التوحيد وأن نموت على التوحيد.
إن مصطلح العقيدة أصبح سمت يميز الأشخاص، فيقال: فلان على عقيدة صحيحة ، فالعقيدة إن لم تكن صحيحة تنغص على صاحبها حتى لو كان من أشهر الناس ومن أعلم الناس ، وعلى سبيل المثال: كتاب مفاتيح الغيب للفخر الرازي ، مجلدات كثيرة في علم التفسير ، ولكن بسبب أنه على المنهج الكلامي الأشعري ومذهب التأويل يُعرض الناس عن كلامه الجيد ، وهذا بسبب الخلل في باب الاعتقاد ، وكذلك كتاب الكشاف للزمخشري ، فالزمخشري عالم لغة ولكنه معتزلي ، فبسبب آرائه الاعتزالية ضيع جمال الجانب اللغوي الذي أبدع فيه في هذا الكتاب.
فهناك كتب كثيرة ضاعت ، وضاعت مجهودات أصحابها بسبب اعتقاداتهم التي خالفت منهج السلف الصالح ، وأما لو كان المؤلف عقيدته عقيدة سليمة وكتب أي كتاب ، فستتلهف عليه الناس، لأن العقيدة سمت .
• كتاب: (الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث) للإمام البيهقي (ت:458).
• كتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728).
• كتاب: (عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت:1206).
وهناك أيضاً كتب كتبت في العقائد ، ولكن على المنهج المخالف ، ومن أمثلة ذلك:
• كتب أبو حامد الغزالي (ت:505) كتابه المسمي: (قواعد العقائد).
• (العقيدة الأصفهانية) التي ألفها الشيخ أبو عبد الله شمس الدين الأصفهاني (ت:688) وهو أحد رؤوس علماء الكلام ، وكان المذهب الأشعري سائداً في البلاد الإسلامية ، وله قوة بحيث إذا خالفه أحد يمكن أن يُسجن ، فلو رد ابن تيمية رحمه الله تعالى على الأصفهاني لاعترض عليه الناس اعتراضاً شديداً وقالوا: كيف يرد هذا على الأصفهاني؟، وانظر إلى شأن ابن تيمية رحمه الله تعالى الآن!! ، فالله تعالى رفع الحق، وقد كان ابن تيمية رحمه الله تعالى في وقتها نكرة بالنسبة للأصفهاني .
فَرُدُّ ابن تيمية رحمه الله تعالى على الأصفهاني وقتها كان يُمكن أن يضيع دعوته ، فألف ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاباً بعنوان: (شرح العقيدة الأصفهانية) ، وداخل الشرح ينقد العقيدة ويرد عليها .
وهذا الكتاب – كتاب شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية رحمه الله تعالى- من الكتب التي لها عمق رائع، ومستوىً عالٍ .
3. الفقه الأكبر:
الفقه الأكبر يُطلق على علم العقيدة ، والذي أطلق هذا المصطلح هو الإمام أبو حنيفة (ت:150) . إذاً ، هذا المصطلح قديم جداً ، وكتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة صغير جداً لا يصل إلى ثلاثين أو أربعين صفحة ، والمجلدات الكثيرة المتعددة في الفقه الحنفي يسميها الفقه الأصغر ، فالعقيدة يسميها الفقه الأكبر ، وكل الشرائع والأحكام يسميها الفقه الأصغر ، لأنه بدون الفقه الأكبر لا يُفهم الفقه الأصغر ولا يُقبل ، فإذا كان المرء بغير عقيدة صحيحة لن تنفعه العبادة، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) (الفرقان:23) .
الجعد بن درهم (ت:125) هو أول من قال بخلق القرآن ونفي أوصاف الله بحجة التنزيه والتوحيد ونفي التشبيه، وقد تبني فكره تلميذه الجهم بن صفوان (ت:128) ، فأدرك الجهم والجعد الفترة التي كان فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، وقد انتشر في وقت الإمام أبي حنيفة نفي الصفات ونفي علو الله على خلقه، والقول بأن الله تعالى في كل مكان بذاته ، فألَّف رحمه الله تعالى كتاب "الفقه الأكبر"، وأصبح هذا المصطلح معروفاً من يومها ، وقال رحمه الله تعالى فيه: "الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه تعالى خير من أن يجمع العلم الكثير" .
وسألوه : ما تقول فيمن يقول : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ ، قال : هو كافر ، لأن الله قال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) ، قيل له: فإن قال: الرحمن على العرش استوى ، لكن لا أعرف العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر ، لأن الله تعالى أخبرنا أن عرشه على الماء ، والماء فوق السماء ، والله يُدعى من أعلى لا من أسفل.
4. السنة:
مصطلح السنة له عدة مدلولات ، فكيف نعلم أن السنة المقصود بها هو علم العقيدة .
السنة تطلق في مقابل الشيعة ، فلفظ السنة هنا يشمل كل الطوائف التي تقدس كتاب الله وسنة رسوله وترى عدالة الصحابة والترضي عنهم كالأشعرية والصوفية ، والخوارج يطلق عليهم اسم السنة في مقابل الشيعة ، فمثلاً المذهب الرسمي في عُمان هو مذهب الإباضية الخوارج ، والمذهب الإباضي في عُمان يُطلَق عليهم اسم السنة على اعتبار أنهم عكس الشيعة.
ويُطلق السنة أيضاً في مقابل الأشعرية ، وهذا هو المقصود بالاصطلاح هنا ، فالسنة هنا كاصطلاح معناها إثبات السنة، فالمراد إثبات ما ورد في النصوص في البخاري ومسلم مما ورد في صفات الله ، فيُسمَّى ذلك السنة ، لأن المعتزلة كانوا يُنكرون السنة ويطعنون فيها ويقولون بأنها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين في أمور الاعتقاد ، ويطعنون في الأحاديث ويقولون بأنها لم تثبت ولا يؤخذ منها عقيدة ، فكان الأئمة يقولون بإثبات السنة ، حتى إن أبا طالب المكي (وقد كان صوفياً على عقيدة أهل السنة) يقول: "فإنَّا قوم متبعون نقفو الأثر ، غير مبتدعين بالرأي والمعقول نرد به الخبر ، وفي رد أخبار الصفات بطلان لشرائع الأحكام ......".
فيقول رحمه الله تعالى بأننا لو رددنا أخبار الصفات (كأحاديث الرؤية وحديث النزول والأحاديث التي أثبت الله تعالى فيها صفة الكلام والوجه واليد وما شابه ذلك) فقد طعنَّا بذلك في شرائع الأحكام كالصلاة والزكاة
قال رحمه الله تعالى: "...... لأن الناقلين إلينا ذلك هم الذين نقلوا شرائع الدين وأحكام الإيمان" .
فالإسلام عبارة عن أخبار وأوامر ، فالأمر يتطلب التنفيذ والخبر يتطلب التصديق، والذي نقل لنا الأخبار والأوامر هم الصحابة رضي الله عنهم ، فلو كذبناهم في باب الأخبار ، فإن ذلك يعني أنهم كذبوا على رسول الله في باب الأوامر ، وهذا لا يكون ، ولذلك فإننا نترضى عن الصحابة رضي الله عنهم كما قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (التوبة:100) ، وأما الشيعة فيطعنون فيهم ، والطعن فيهم طعن في الشرع والدين ، لأن هذه الشرائع وهذه الأحكام نقلوها إلينا كما نقلوا أخبار الصفات .
فعلم العقيدة هو علم السنة ، والإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بيَّن ذلك في كتاب أصول السنة فقال في مقدمته: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والإقتداء بهم، وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات في الدين والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء، إنما هو الإتباع وترك الهوى، ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها لا يقال لم ولا كيف ؟"
وهناك كتب كثيرة كُتبت باسم السنة في مسائل التوحيد والعقيدة تمييزاً لها عن أصول المعتزلة التي أسفرت عن تعطيل السنة وردها ، ومن أمثلة ذلك :
• كتاب أصول السنة لأحمد بن حنبل (ت:241)
• الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الشيباني (ت:287) كتب في الرد على المعتزلة كتاباً سماه: (السنة) حيث جاءت مسائله عن الإيمان بالقدر ورؤية الله تعالى في الآخرة ومسائل أخرى في صفات الله تعالى يقف منها أهل الاعتزال موقف التعطيل .
• كتاب (صريح السنة) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت:310) قال فيه: "فأول ما نبدأ بالقول فيه من ذلك عندنا، القرآن كلام الله وتنزيله إذ كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه كلام الله غير مخلوق كيف كتب وحيث تلي وفي أي موضع قرئ .. فمن قال غير ذلك أو ادعي أن قرآنا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد غير ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه دائنا به فهو بالله كافر حلال الدم بريء من الله والله منه بريء" .
فانظر كيف كانوا أشداء في الحق ، مع أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يُكفر المعتزلة ، وكذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى لم يكفر الطوائف الأخرى ، وبذلك نعلم خطأ من يقول بأن ابن تيمية كان يُكفر الناس ، فابن تيمية رحمه الله تعالى لم يثبت عنه أنه كفَّر طائفة من الطوائف ولا تكفير شخص معين ، ولكنه في كلامه يرد على هذه الطوائف ، فنحن جئنا لنأخذ بأيدي الناس إلى الحق ، لا لنذبح الناس .
• كتاب (السنة) لأبي عبد الله بن نصر المروزي (ت:294).
• كتاب (السنة) لأبي بكر الخلال (ت:311).
• كتاب (شرح السنة) لأبي محمد الحسن بن على بن خلف البربهاري (ت:329).
كل هؤلاء كانوا يتحدثون عن السنة كاصطلاح يرادف معنى التوحيد والعقيدة.
5. الإيمان:
أطلق مصطلح الإيمان على مسائل التوحيد والعقيدة لأنها قضايا تتعلق بتصديق القلب واستعداده للعمل، وهذان ركنان أساسيان في صلاح الإنسان، وقد تداول علماء السلف ذلك الاصطلاح منذ وقت مبكر وأطلقوه على مؤلفاتهم، فمن ذلك:
• كتاب: (الإيمان ومعالمه وسنته واستكمال درجاته) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت:223) .
فالإيمان هو العقيدة ، وهذا كان معروفاً عند الصحابة رضي الله عنهم ، فكان عندهم مصطلحات الإسلام والإيمان والإحسان ، ففي حديث جبريل عليه السلام قال : "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم" ، فالدين إسلام وإيمان وإحسان ، فالإسلام تنفيذ الأمر ، والإيمان تصديق الخبر ، وقد قلنا بأن الإيمان قد يُطلق على تصديق الخبر وتنفيذ الأمر .
• كتاب (الإيمان) لمحمد بن يحيي بن أبي عمر العدني (ت:243).
• كتاب (الإيمان) لمحمد بن إسحاق بن يحيي بن منده (ت:395).
• كتاب (الإيمان وأصوله) لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت:429).
• كتاب (شعب الإيمان) لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت:458) .
• كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) وهما (الإيمان الأوسط) و(الإيمان الأكبر).
• كتاب (تنبيه الوسنان إلى شعب الإيمان) للشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي (ت:936).
6. أصول الدين:
أركان الدين هي التي حددها النبي في حديث جبريل عليه السلام ، وهي الإيمان والإسلام والإحسان ، وقد قال النبي في آخر الحديث: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم" ، وأما مصطلح "أصول الدين" - الذي أُنشئت على أساسه الكليات الموجودة الآن والتي تسمى بكليات الدعوة وأصول الدين – فهو مصطلح أشعري ،فكل من ألَّف في أصول الدين كان على مذهب الأشاعرة والمعتزلة والمتكلمين إلا أبا الحسن الأشعري ، فله كتاب اسمه " الإبانة عن أصول الديانة" وهو على منهج السلف الصالح .
لماذا سموه بـ"أصول الدين"؟
لأنهم وضعوا أصولاً عقلية، - سنتعرف عليها بالتفصيل بإذن الله تعالى- وهذه الأصول العقلية نظروا إليها على أنها قواطع يقينية ، فما جاء في الشرع يوافق هذه الأصول أخذوا به كدليل ثانوي ، وما خالف عطلوه ، ويقولون عن هذا التعطيل بأنه تأويل.
فكتبوا في أصول الدين على أن أصول الدين هي القواطع العقلية ، وأما باقي الأخبار التي وردت في الكتاب والسنة فيسمونها أصولاً ظنية، ويقولون: لا نقدم الظني على القطعي أو اليقيني ، فسموا "أصول الدين" على هذا الاعتبار ، فأصل مصطلح أصول الدين من المتكلمين وليس من السلف .
ومن أمثلة من كتب في أصول الدين:
• أول من عرف عنه هذا الاصطلاح هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي (ت:319) إذ أنه ألف كتاباً سماه: (أوائل الأدلة في أصول الدين) ، وهذا كان في نهاية عصر المعتزلة وظهور المذهب الأشعري ، وقام بشرحه أبو بكر بن فورك الأصبهاني (ت:406)، وكلاهما ضليعان في المذهب الأشعري.
• ألف أبو سعد عبد الرحمن بن محمد النيسابوري (ت:478) كتاباً سماه: (الغنية في أصول الدين)، نسجه أيضا على طريقة الأشعرية ومنهجهم ، قال في بدايته: "فصل في بيان العبارات المصطلح عليها بين أهل الأصول منها: العالم هو اسم لكل موجود سوى الله تعالى، وينقسم قسمين: جواهر وأعراض، فالجوهر كل ذي حجم متحيز، والحيز تقدير المكان، ومعناه أنه لا يجوز أن يكون عين ذلك الجوهر حيث هو، وأما العرض فالمعاني القائمة بالجواهر كالطعوم والروائح والألوان، والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتصور تجزئته عقلا، ولا تقدير تجزئته وهما، وأما الجسم فهو المؤلف، وأقل الجسم جوهران بينهما تأليف ... الخ" .
• ألف جمال الدين أحمد بن سعيد (ت:593) كتابا سماه: (أصول الدين) انتهج فيه مذهب المتكلمين من الأشعرية وطريقتهم في الغيبيات، ومما جاء فيه: "فصل صانع العالم لا يقال له: أين هو؟ لأن أين يستخبر به عن المكان ولا مكان له" مع أن الرسول قال للجارية : أين الله؟ ، فهل النبي كان مخطئاً؟!!
• كتاب (الأربعين في أصول الدين) للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت:606) ، وهو أحد أعمدة المذهب الأشعري ، وقال حاجي خليفة عن كتاب فخر الدين الرازي (الأربعين في أصول الدين): "ألفه لولده محمد ورتبه على أربعين مسألة من مسائل الكلام" .
7. الشريعة:
فنجد كتاب الشريعة للآجري ، ومن المعلوم أن الشريعة المقصود بها تنفيذ الأوامر، ولكن الآجري رحمه الله تعالى جعل الشريعة علماً على العقيدة على اعتبار أن الشريعة لن تُقبل من العبد إلا إذا كان على عقيدة سليمة في باب الخبر، ولذلك يقول رحمه الله تعالى في هذا الكتاب: " كتاب الإيمان والتصديق بأن الله عز وجل كلم موسى عليه السلام، الحمد لله المحمود على كل حال، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم أما بعد فإنه من ادعى أنه مسلم ثم زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى فقد كفر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن قال قائل: لم ؟ قيل: لأنه رد القرآن وجحده، ورد السنة، وخالف جميع علماء المسلمين، وزاغ عن الحق، وكان ممن قال الله عز وجل: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (النساء:115) ، وأما الحجة عليهم من القرآن: فإن الله جل وعز قال في سورة النساء: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) (النساء:164) وقال عز وجل في سورة الأعراف: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) (الأعراف:143) ، وقال عز وجل: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي ) (الأعراف:144)
وقال في نهاية الكتاب: "وبهذا وبجميع ما رسمته في كتابنا هذا وهو كتاب الشريعة ثلاثة وعشرون جزءا ندين الله عز وجل، وننصح إخواننا من أهل السنة والجماعة، من أهل القرآن وأهل الحديث وأهل الفقه وجميع المستورين في ذلك ؛ فمن قبل فحظه من الخير إن شاء الله، ومن رغب عنه أو عن شيء منه فنعوذ بالله منه، وأقول له كما قال نبي من أنبياء الله عز وجل لقومه لما نصحهم فقال: ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر:44) .
8. علم الكلام:
يتبين من الاسم أن هذا المصطلح ليس على منهج السلف، فلماذا سموه بعلم الكلام؟ ، لسببين:
السبب الأول: نسبة إلى ما اشتهر من الجدل حول مسألة كلام الله .
السبب الثاني: لأنهم أخذوا كلام اليونان وترجموه إلى اللغة العربية ، ثم أخذوا هذه الأصول العقلية وبدأوا ينظرون بها إلى كتاب الله ، كما حدث مع الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد .
فلما ترجموا هذه الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية ، فتنت المعتزلة وأخذوها كأصول ، ثم ظهرت الأصول الخمسة وبدأوا يذكرون الكلام في نظام سفسطة لا تؤدي إلى شئ ، ولذلك وقف لهم أهل السنة وقفة شديدة .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد، ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا، فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض فيه، حتى قال الشافعي رحمه الله: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام ... وقال: حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام، وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب كلام أبدا ، علماء الكلام زنادقة"
ولأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كتاباً اسمه "الرد على الزنادقة والجهمية" ، ويقصد بالزنادقة علماء الكلام ، فكانوا يسمونهم زنادقة على اعتبار أنهم كانوا يتكلمون كلاماً يؤدي إلى هدم السنة ، كما ابتدعوا في التوحيد معنىً غير المعنى المعروف ، وقد حذر أتباع السلف الصالح من علم الكلام وألفوا كتباً في ذمه وتقبيحه ، ومن ذلك:
• كتاب (تحريم النظر في كتب الكلام) لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة .
ولذلك قالوا: "من أخذ العلم بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس" ، فقد كان قديماً يأتي بعض الناس بماء الذهب ، ويخدعون عامة الناس بطلاء المعدن بماء الذهب ويبيعونه على أنه ذهب ، وعندما يُكشف أمرهم ، يُذهب بهم إلى السجن ، فيُفلسون ، فهذا هو المقصود بالكيمياء.
وفي المقابل تجد من كَتب ليحذر من صعوبة علم الكلام وأنه للخواص ، كما فعل أبو حامد الغزالي في كتابه: (إلجام العوام عن علم الكلام)
وقد ألفت كتب كثيرة من قبل المتكلمين في هذا العلم معتبرين إياه علم التوحيد الأمثل ، فمن ذلك :
• كتاب (نهاية الإقدام في علم الكلام) لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت:548).
• كتاب (الداعي إلى الإسلام في أصول علم الكلام)، لأبي البركات بن محمد الدفع (ت:577)
• كتاب (مطية النقل وعطية العقل في علم الكلام) لمحمد بن إبراهيم الصوفي (ت:622).
• كتاب (غاية المرام في علم الكلام) لسيف الدين أبي الحسن الآمدي (631).
• كتاب (زبدة الكلام في علم الكلام) لصفي الدين الهندي (ت:715).
• كتاب (المواقف في علم الكلام) للعلامة عضد الدين الإيجي (ت:756)
• كتاب (علم الكرام في علم الكلام) للشيخ زين الدين المالطي (ت:788).
فكل هؤلاء تكلموا في علم الكلام ، والمقصود بذلك نصرة المذهب الأشعري على مذهب السنة ، على اعتبار أن هذا هو أصول الدين ، وهذا هو المذهب الحق.
فهذه هي المصطلحات التي أُطلقت على علم التوحيد ، وقد ذكرناها في كتاب: "المختصر المفيد في علة تصنيف التوحيد".
• مفهوم الألوهية بين السلف ومخالفيهم .
نحن نذكر هذه التقسيمات حتى إذا بدأنا في بيان معتقد أهل السنة والجماعة تكون عند طالب العلم الخلفية الكافية التي يستطيع أن يستوعب بها ما سيأتي.
هل كل من يقول: "لا إله إلا الله" على عقيدة صحيحة؟
نقول: لا، الذي يقول: "لا إله إلا الله" يكون على عقيدة صحيحة إذا كان المقصود بـ"لا إله إلا الله": لا معبود بحق إلا الله ، فالذي على هذه العقيدة هو على منهج الصحابة والتابعين ، على منهج السلف الصالح خير القرون ، لأن التوحيد المطلوب هو توحيد العبادة ، فالله تعالى يقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً ) (التوبة:31) فالمقصود بالتوحيد هنا هو توحيد العبادة ، لا معبود بحق إلا الله ، والمعبود هو الذي يُصدَّق في خبره وهو الذي يُطاع في أمره ، فالذي يقول " لا إله إلا الله" تنفعه إذا كان على هذا المعنى ، فيقول: يا رب ، أنا على استعداد إن أخبرتني صدَّقت ، وإن أمرتني نفذت ، قال تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (طه:14) ، وقال سبحانه وتعالى
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء: 25)،وقال: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص: 88)، وقال تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (غافر: 65)، وقال تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (المزمل: 9)
ومما ورد في سنة رسول الله في بيان معنى لا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه حديث بعث معاذ إلى اليمن برواياته المختلفة ، فقد قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" ، وفي رواية أخرى قال : "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله" ، فالتوحيد المقصود هو توحيد العبادة ، والذي جعلنا نعرف أن توحيد العبادة هو "لا إله إلا الله" الرواية الثالثة ، وفيها يقول : " إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله" ، إذاً شهادة ألا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله ، أو توحيد العبادة لله .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل" .
معنى "لا إله إلا الله" عند المتكلمين:
نحن نقول ذلك ، لأن هناك من فسَّر "لا إله إلا الله" بمعانٍ أخرى ، فالمتكلمون لما فسروا "لا إله إلا الله" فسروها بمعنى الخالقية وقالوا: "لا خالق إلا الله" ، فيقولون في كتبهم: الكلام على مباحث الألوهية ، وإذا نظرت إلى الألوهية التي يتكلمون عنها لا تجدهم يتكلمون عن توحيد العبادة ، وإنما يتكلمون عن إثبات وجود الخالق ، وأن الخالق يمتنع أن يكون إلهين، وأن هناك خالقاً واحداً للكون ، وكيفية إثبات سبع صفات وتعطيل الباقي ، وأن التوحيد معناه نفي الصفات لأن إثبات الصفات تشبيه...........إلى آخره، فهذه هي مباحث الألوهية ، فهل هذا هو معنى الألوهية؟
نقول: لا ، توحيد الألوهية معناه : لا معبود بحق إلا الله ، وأما إقرار الناس بوجود خالق للكون أمر فطري لا يحتاج إلى دليل، ولذلك روى البخاري من حديث أبي سفيان لما سأله هرقل ملك الروم عن النبي قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وأما إثبات الخالقية لله تعالى فهو أمر فطري في النفوس ، حتى عند المشركين ، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (الزمر:38) فكانوا يؤمنون بأن الله هو الخالق المدبر، وكانوا يتخذون الآلهة الأخرى وسائط وشفعاء ، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) (الزمر:3) ، وأما ساعة الشدة فلا يلجأون إلا إلى الله ، ولذلك لما دخل النبي مكة أمَّن الناس جميعاً إلا أربعة نفر وامرأتين ، وكان منهم عكرمة بن أبي جهل ، فهرب عكرمة وركب البحر ، فأصابت السفينة عاصفة شديدة، فقال أصحاب السفينة لركابها: "أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا " ، أي توجهوا إلى ربكم وحده ولا تشركوا به ، فلما سمع عكرمة هذا الكلام قال: "والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ، لا ينجني في البر غيره " ثم قال: "اللهم إن لك عليَّ عهداً ، إن أنت عافيتني مما أنا فيه ، أن آتي محمداً فلأجدنه عفواً كريماً" ، وبالفعل نجاه الله تعالى ، وجاء إلى النبي وأسلم ، وأصبح أحد المجاهدين الذين فتحوا الفتوحات .
فكانوا يشركون بالله وقت الرخاء ، ووقت الشدة يوحدون ، ولذلك فإن من وحَّد الله في العبادة أثبت أنه الخالق ، لكن من أثبت أن الله هو الخالق يمكن ألا يوحد الله في العبادة ، فتجد من يؤمن بأن الله هو الخالق الرازق ولكن إذا قيل له : قم إلى الصلاة ، يأبى ، فهو عنده توحيد ربوبية ، وليس عنده توحيد ألوهية ولا توحيد عبادة .
فالمفروض أن تستجيب الأمة لتوحيد العبادة ، وليس أن يُدرَّس للطلاب توحيد الألوهية على أن الله تعالى هو الخالق، فما من أحد إلا ويعلم أن الله هو الخالق ، قال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (إبراهيم:10) ، وقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (العنكبوت:61) ، حتى فرعون قال له موسى عليه السلام : (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) (الإسراء:102) ، وقال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) (النمل: 14) ، فالناس تعرف بقلوبها أن هناك خالقاً للكون ، فإذا قلت: "لا إله إلا الله" بمعنى أنه لا خالق إلا الله ، فليس هذا هو المعنى السلفي.
فالسلف يقولون بأن "لا إله إلا الله " معناها : لا معبود بحق إلا الله ، والخلف يقولون بأن معناها: لا خالق إلا الله .
معنى "لا إله إلا الله" عند الصوفية:
وأما الصوفية فيقولون بأن معنى "لا إله إلا الله" : لا موجود إلا الله ، وهؤلاء هم غلاة الصوفية كابن عربي ، وأما عوام الصوفية فتراهم يأخذون من هنا ومن هناك ، وأما أوائل الصوفية فكانوا في العقيدة وفي باب الصفات على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل ، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كان يدافع عنهم .
الإمام القشيري (صاحب الرسالة القشيرية) حاول أن ينسب أوائل الصوفية إلى المذهب الأشعري ، وهؤلاء وقفوا مع الإمام أحمد ضد المعتزلة ، وكتبوا كلاماً رائعاً في نصرة المذهب السلفي ، فألف ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب "الاستقامة" في مجلدين ليرد على القشيري ، ويبين أن المشايخ (أي أوائل الصوفية ، فقد كانوا يسمون بالمشايخ) عقيدتهم عقيدة سلفية ، ونصرهم نصراً مؤزراً ، فصحيح أنه رحمه الله تعالى يُخالف الصوفية وحدثت إشكالات كثيرة بينه وبينهم ومناظرات ، لكن لم يمنعه ذلك أن يقول كلمة الحق في هؤلاء .
فأبو طالب المكي كان صوفياً ، وسهل بن عبد الله التستري كان صوفياً ، ونحن نذكر كلاماً لهم.
وكذلك أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي له كتاب في العقيدة رائع ، وإن كان له ابتداعات في باب العبادات ، فنحن نقول: الحق يؤخذ والباطل يُرد ، وهذا هو منهج الوسطية ، فكان الصوفية الأوائل على منهج السلف الصالح .
فغلاة الصوفية يقولون: لا موجود إلا الله ، ما معنى هذا؟
يقولون بأن العالم الذي نعيش فيه هو الله ، ويضربون مثالاً لذلك ، وهو مَثَل المرآة ، فالشخص إذا وقف أمام المرآة يعرف نفسه أكثر ، ويرى أوصافاً في نفسه لم يكن يراها إلا من خلال المرآة ، فغلاة الصوفية يقولون: هذه المخلوقات هي المرآة ، وربنا يرى نفسه ومتجلٍ في هذه الكثرة التي تظهر في المرآة، فإن أراد أن يرى نفسه جباراً منتقماً يظهر في صورة فرعون ، وإن أراد أن يرى نفسه رحيماً يتجلى في صورة محمد ، وإن أراد أن يرى نفسه جميلاً يتجلى في صورة المرأة، فيقولون: المرأة هي أكمل تجلي لله ، لأن فيها الجمال كله(تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً).
فيقولون بأن الله هو السماء بما فيها من شمس وقمر ونجوم، وهو السحاب الذي نراه بين السماء والأرض عند الصفاء والغيوم لا فرق بين الأنداد والأضداد، ولا فرق بين الرب والعباد، فالعابد عندهم هو المعبود والذاكر هو المذكور، كما يقول ابن عربي: "ما في الوجود مثل ، ما في الوجود ضد ، فإن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفس"
فالله عندهم يظهر في صورة شخص منتقم ، في صورة عالم ، في صورة بوذي ، في صورة صنم..........ويقولون بأن هذه صور وتجليات يظهر فيها الحق .
ولذلك يقول ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي إذا لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي اليوم قابلاً كل شرعةٍ فمرعىً لغزلان ، ودير لرهبان
وبيت لأوثان ، وكعبة طائفٍ وألواح توراة ، ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
فصحح ابن عربي دين اليهود ودين النصارى ودين البوذيين ودين المجوس ..........، ولذلك هذا الرجل يحبه أعداء الإسلام ، ولذلك وقفوا بجانب المستشرقين لما طبعوا كتب الصوفية حتى يوزعونها مجاناً على العالم الإسلامي.
وكان يقول أيضا:
فإنا أعبدٌ حقا وإن الله مولانا وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا
أي أن الإنسان هو الله، وهو المعبود بحق ،لأن الله تعالى تجلى فيه
فلا تحجب بإنسان فقد أعطاك برهانا فكن حقا وكن خلقا تكن بالله رحمانا
فكن حقاً: أي إلهاً ، وكن خلقاً: أي الصورة التي تجلى فيها.
فهذا هدم للدين تحت مسمى " لا إله إلا الله".
معنى "لا إله إلا الله" عند الفلاسفة:
وأما الفلاسفة فيقولون بأن "لا إله إلا الله" معناها: لا علة إلا الله ، فيقولون بأن الله تعالى هو العلة الأولى وليس بمعلول، فما معنى العلة والمعلول؟
هذا في الأصل يُطلق على السبب والنتيجة ، فالإنسان يضع البذرة في الأرض ، وهذه البذرة تسمى سبباً ، فتُخرج نبتة، وهذه النبتة يسمونها نتيجة سببها البذرة ، فالبذرة علة أو سبب والنبتة معلول أو نتيجة ، فالعلة تؤدي إلى معلول ، أو السبب يؤدي إلى نتيجة ، ثم إن النبتة نفسها تنقلب وتصبح علة لظهور الثمرة ، فالثمرة نتيجة والنبتة سبب ، ثم إن الثمرة أصبحت علة ، وذلك لوجود البذرة بداخلها ، فكل معلول قبله علة ، وكل علة كانت معلولاً لعلة ، فهذه كلها أسباب، ولذلك يقال: خذ بالأسباب، لأنها تؤدي إلى النتائج ، لأنك لن تصل إلى النتيجة إلا إذا أخذت بالأسباب .
والله تعالى هو الذي خلق البذرة وهو الذي خلق النبتة ، ولكن الله تعالى لن يخلق لك النبتة إلا إذا أخذت بالأسباب ووضعت البذرة التي خلقها الله تعالى ، فخالق العلل والأسباب هو الله تعالى ، لكن هل الله تعالى سبب أدى إلى نتيجة؟
لا ، هو خالق السبب والنتيجة ، وأما الفلاسفة فيريدون أن يجعلوا الله تعالى هو العلة الأولى كالبذرة التي أخرجت النبتة ، فيقولون بأن الله تعالى هو العلة الأولى التي صدرت عنها العلل كلها.
نقول لهم: الله تعالى ليس بعلة ، وإنما هو خلق الأشياء وخلق الأسباب من فوق عرشه ، ولا يخضع لنظام التولد الذي تسير عليه الحياة ، فالله تعالى قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )، أي أنه لا يخضع للأسباب والعلل ، فليس بمولود لأنه ليس له والد ، فالوالد علة والمولود معلول ، فالأب سبب في وجود الولد ، فلا يوجد ولد أتى بلا أب ، ولكن لو شاء الله أوج